Wednesday, March 7, 2007

مقدمة ديوان من نور الخيال و صنع الأجيال فى تاريخ القاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم



هذا الديوان كُتِب رداً على النكسة.
من القلب عندما شُقَّ بالعرض والطول و غاصت فيه الجراح لترسخ أو تنطلق. ومن العين عندما قرأت الهزيمة فى التليفزيون وسرى فى السلسلة ماء كالرصاص أو الجليد. وكنت مشدوداً إلى ميناء التاريخ العربى الإسلامى وكنت القائل به والناقل والعاقل والمجنون من يوم ولدت فشكرت الكاف والنون على هذه الأرض المصرية أشمها كالعاشق حتى أموت.

وياما قلت أنى على هذه الأرض أحبو كما حبوت وأحب كما أحببت ، أعرف قدرى فى هذا الجناس والتمثل بأناس يقال لهم فى نور الخيال "كون مصر يا بيرم من المنفى، تقرا جرايدها بتاريخ الأمس" و "كون مصر واهدينا يا شيخ رفعت إلى الإيمان يا هادى ما أكرمه" وسيد درويش ومختار وشوقى وحافظ والمنفلوطى وطه حسين وقد تصالح الجميع والأدهم وحسن ونعيمة. الصدق الصدق والإحساس الندى الرطب خنقته العبرات. "كون مصر طيبة الوجود والشجن يا همشرى يا دمعة محفورة تبكى على شجرة وعصفورة" هذا الديوان خرج من شعب التاسع والعاشر من يونيه وانتهى إلى استشهاد عبد المنعم رياض ومن هذين اليومين كان قد عبر القنال بإذن الله.

وأنا سمعتُ الجنود يكبّرون و سمعتُ طفلاً يهلل و سمعتُ أماً تهنّن و رأيتُ انتصاراتٍ كثيرة مقبلة بإذن الله فى هذا العمل الشاعر بمصر الثائر لمصر و تاريخها و طيبها وحسنها و جمالها و مروءتها وإنسانية إنسانها العذب الذى يملك نوراً من الأسماء "نور وخبز وماء ، أملك عمر واملك صلاح الدين ، طرب اليتامى ونقش إسلامى فى سمع الزمن" ومرة أخرى : "دى هى كلمة عمر ، كلمة صلاح الدين ، كلمة عرابى فى ميدان عابدين ، من التاريخ أيام بتتغنى وليالى بلسان العرب منشدين" قول عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
وكان أول بيت كتب فى نور الخيال مقبلاً من صنع الأجيال "الأرض بتتكلم عربى" ثم أُلْهِمْتُ بعد ذلك:
الأرض بتتكلم عربى وقول الله
إنَّ الفجر لمن صلاه
ما تِطْوَلش معاك الآه
الأرض بتتكلم عربى

و لم تطل الآه. و لن تطول.
لا يطيب قلب شاعر عربى لشىء أكثر من أن يحلم بما يعلم و يعمل بما يقول:
الأرض بتتكلم عربى.

فؤاد حداد

مقدمة ديوان ميت بوتيك




بسم الله الرحمن الرحيم



سألتُ أميناً أى دواوينى أنشر بعد الخمسة وبعد الحمل الفلسطينى والشرط نور: الشقى والعاقل على مزاج الوطن.
قال: ميت بوتيك قبل أن يقدُم.
أى بنىّ كل الفن يقدُم وإن تمنينا الأمانى وتوهمنا الأوهام، أو قل توهمنا الأمانى وتمنينا الأوهام.
(هذا ديوانٌ مزركش تفرش عتبته بدماءٍ ملوّنة)
يا لؤلؤاً من خيال ما أتكبّد أنت صادق الحسّ لا تلوى على بعض السفاسف أوعلى أكثرها أو على شىءٍ منها – هل تنظر من قريب فترى أم من الحياء لا ترى: بعضُ َ الخواطر كاذبـةٌ ً مثل الحسابات الأنيقة.
أى نعم إن ألصق الفنون بالضحك والسخرية أسرعها إلى العطب.
النكتة إمّا بائخة وإمّا قديمة.
ومن ألف تعيش اثنتان أو ثلاث.
وأخريات يرفلن فى ثياب الحزن أو يستعرن أكفان شقيقاتهن أو ما قبل الأكفان –أيهما أزهى.
القول فى العَرَض الزائل عَرَضٌ زائل.
ولكن وراء البتارين فى قرية ميت بوتيك...
- قرية ميت بوتيك؟ .. لم تكن إذن تقصد مِئَة بوتيك بمعنى ألف بوتيك أو مليون بوتيك أخذاً بالأقرب واستلطافاً للفظ...
لا تؤاخذني.. فقد كنت تقصد التورية على كل حال،
لا أدرى الآن ماذا كنت أقصد ولا يهم الناس أن أدرى... ذهب زهدى إلى سيناء يوماً بعد ذلك أو أيّاماً وعاد من رحلته ببعض الصور أو قل عاد بشتيت من الصور.
أين منها الصخور.
تتناوب فوق الصدور.
وراحة المتلمّس.
والبخت فى الودع.
أصداؤها المترامية تطالعنى بما يشبه الوحشة والنوى، هل كان الخلود والموت مفتعلين؟.. هل كان صمتاً ما يقطعه هنا وهناك جدار وجدار.
لا أقتحم المعانى ولا ألتفّ عليها تأسرنى القافية هى التى تقص أثري.
فإن شاءت رُدِمْتُ تحت أنْقَاض الاحتلال.
وإن شاءت هُدِمْتُ
وهُزِمْتُ
وإن شاءت لم أُهْزَمْ وَلَم أَنْتَصر
لا أملّ التكرار ولا يملنى
إن سور الدير من بحر الرَمَل
فهو لا يألو سجوداً واعتكافا
وصلاة طلبت خبزاً كفافا
ما انكمش تاريخٌ وخطوت فى غيره ومادت صحراء وسجنتُ فى غيرها أو نفيت، ما الوهج والصدأ، ما لون المنجنيز والنحاس
وجدار من دموع خيّره
تزيد السراب اكتشافآ
وجدار قائم لا أدرى هل يفك الخط المكتوب عليه: بوتيك
مكتوب عليه: بوتيك
بعد الذين استشهدوا وركزوا العلم:
بوتيك
أم كانوا بمثابة أزواجهم وذراريهم فيحقّ لهم أن يفرفشوا
أم تَهَّجيتُ باءً وتاءً وكافآ فبنيتُ عليها هذه الفقرة لا أدرى إلى أين تؤدى.
إن لم يكن سيفى فإن لسانى عربى
أم لثامى
وكنتُ فى الشمس والقمر أم فى نسيج الشيخة أم الآه أم فى ممر الحشر والحشرجة خلّ بالك
كل قولى زخرفٌ حرٌّ عتيق
يا لؤلؤاً من خيال ما أتكبد الناس جميعاً لا ينطلى الزور عليهم والشاعر من الناس، ذكى من أذكياء فلماذا يقال من وراء ظهري: أبله.
ألأنى أحبّ أن أتباهى بهذا الذكاء المنتشر، فلا يعالج مثل الوباء ولا يكظم مثل الغيظ ولا يحمل مثل الجنين.
ولا أدرى كيف يجوز الاستعباط ومتى أقولُ فى اصطناعه بلى ومتى أقولُ كلا
أم لا أقول هذه ولا تلك
لا أقول شيئاً إطلاقاً
ولا على غرار السلف تلف
أمسك قولي: التلامه سلامه
عُلِّقت يفط السماسره
استسلم الجوُّ لها كمن ينام ومن يصحو
كأنّها تقرأ الناس لا الناس يقرأونها
وجدت التقاليد قافية العفاريت فقهقهت لهذا التجديد قهقهةً مُحترمة.
وضع الميزان.
منه وفيه مثل دود المش
قلوب تطلب خلوّاً للتمليك أو للإيجار تتحدث فى الجبر والقدر
تتغابى تتذاكى
تكون هذا وذاك طوع الإشارات تغرق فى دجلة تعوم فى الفرات
تفرز فى الجو أنفاقاً وفى الماء أنفاقاً علناً وإعلاناً وتقلب باطن الأرض ظاهراً وتقول: ليس لدينا شىءٌ نخفيه «ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس».
هى دود كما رسمها الفتى الهمذانى بالدماء الملونة طاووساً طويل الآذان
من بدع الزمان
أنخاف أن نكون من هذه القلوب ولا نكون منها نرتدى بزة لا نرتديها
ننطقُ حروفاً لا ننطقها
زرعوا مكانها حروفاً من البلاستيك أو هى من الخشب أو من رماد الشبوره
تقبلنى وتردنى تقيمنى وتودعنى
مثل المحطة والمطار والميناء ومنه وإليه
والسويتش والكشك والسندوتش
والدائرة
والدائخة والحائره
لسه ما اتجننتش
لماذا تريد الآن أن تجن
الفن غول هزيل
دكان التوبه
فلاح بفئوس الآخرين
الدواء تأميم القنال
أم قرص أسبرين
أم كولى يورينال
للصابرين
أو من ماءٍ تجمد على ألف شكل آخر غير الماء تخاف أن تتخبط داخلها بالفوانيس وبالعمدان ولا فوانيس ولا عمدان
ولا محطة ولا ....
بل هى موجودة مادمت أنفيها
والراوى يقول: لسه ما اتجننتش


وأنا ماشى وابنى فى إيدى وإلا أنا اللى فى إيدى شفت يافطة «بازار كذا» بدأت ديوان ميت بوتيك
«بازار كذا كذا بازار»
فؤاد حداد

Sunday, March 4, 2007

يا خفيف الظل يا مصر الجميلة


قال ابن سلام أو ابن قتيبة، لا اذكر أيهما، ولم تعد المراجع تحت يدى لتسعفنى على التحقيق، قال ابن سلام، فيما أرجح، أن أشعر الشعراء من يستولى عليك شعره ويستحوذ على أقطار نفسك، ما دمت فيه. هذا الكلام بمعناه لا بلفظه.
وقد ضرب عليه مثلا بالطبقة الأولى من فحول الجاهلية. قال ان الاعشى أشعر الشعراء مادمت ماضيا فى انشاد شعره، فاذا انتقلت إلى امرئ القيس كان هو الاشعر، وكذلك النابغة وزهير بن أبى سلمى. وهذه الطبقة لا تجود بها الايام فى كل جيل من الاجيال ولا فى كل عصر من العصور ولا فى كل قرن من الزمن.
وكان من ألطاف العناية أن جيلنا الذى نعيش فيه لم يخل من أمثالهم.
هذا صلاح جاهين عندما تستمع الى أغانيه وتحسن الاصغاء اليها وتنفعل وتتحد معها فتنحنى الى الارض وأنت تعرق وتغرق عندما ينشد المنشد: 'الارض قالت آه، الفاس بتجرحنى، رديت وانا محنى، آه منك أنت آه'، وتطير فى الاعالى متشياً عندما يقول: 'يا حمام البر سقف'، وتتحمس وتشجع وتستبسل وتخوض غمار المعارك وأنت تواكب الفتح الذى استحدثه فى الاغانى الوطنية منذ أن صدح بهذه الاغنية الى أن نظم نشيدنا الوطنى 'والله زمان يا سلاحى'.
هذا أشعر الشعراء عندما نقرأ له كلمة سلام ونقول معه 'بكره أجمل م النهاردا'، وعندما تطالع رباعياته واحدة بعد الاخرى وتلهث وراءه وكأنه يرأف بك ويرد اليك انفاسك عندما يختم كل رباعية بلازمة الدهشة المطمئنة والقلق المريح. عجبى. أشعر الشعراء فى 'تراب دخان' وفى 'غنوة برمهات'. وأشعرهم حين يقول 'فيك يا حديد روحانية' وأشعر الشعراء عندما يفتتح مسرح العرائس أعماله فى مصر ب 'الليلة الكبيرة' وعندما تستمع اليها فى كل عيد وفى كل موسم من الاذاعة و التليفزيون، وآه لو اسعدك الحظ فاستمعت اليها كلها بصوت ملحنها الشيخ سيد مكاوى. ولقد أسعدنى الحظ فاستمعت اليها كلها بصوت سيد مكاوى منذ سنتين فى نقابة الصحفيين والجمهور يردد وراءه ومعه كل مقطع وكل بيت. ينعم بالمشاركة فى الأصالة المصرية وفى الوجدان الشعبى الصميم. وقد احسست حينئذ بالقاعة كلها تعلو وتهبط وكأنها قلب يخفق، وخلجات النفس ترف مفتونة بروعة النغم و بطلاوة الكلمات وحلاوتها. حلاوة لا تنتهى. حلاوة تأخذ بأعقاب بعضها البعض، زاخرة بالوحى، مفعمة بالانس، وافية، مشبعة ولا يشبع منها الناس ابدا.
آه من حلاوة كلمات صلاح جاهين. ما أطيب وما أرق وما أبهى وما أبهج:
يا خفيف الظل يا مصر الجميلة.
* * *
هذا هو النقد الذى أعرف: أن أضع يدى القارئ على مواضع الجمال فى الشعر الذى أعرض له. وان ظن المواهمون أنها قصيدة من الغزل فى شعر صلاح جاهين 'فليكن' انه جدير بها واتمنى أن تكون جديرة به. وقد جمع صلاح جاهين أخيرا أشعاره التى ظهرت على الورق من قبل فى كتاب بعنوان 'دواوين صلاح جاهين' يضم ديوان 'كلمة سلام وموال عشان االقنال وعن القمر والطين والرباعيات وقصاقيص ورق' يضم الثقة والحيرة والرضا والثورة.
فلذات من الاكباد تمشى على الارض وتجرى على الورق. يعلم صاحبها كما لا يعلم احد غيره أن الشعر يستطيع التعبير عن كل الاشياء وكل الحالات: الفرح والحزن والضحك والبكاء ومتعة الحياة ورزق الاستشهاد واللحظة العابرة والخلود الباقى وذرة الرمل وقطرة الماء والكون اللانهائى. شعر لا تحده حدود ولا يجرى على وتيرة واحدة. شعر رحب مثل أحضان الأمهات ومثل العين التى تجمع فى نظرتها كل نور الدنيا. وقد يهمس هنا وهناك بهمسة رقيقة، وقد يرن رنين كأس من البللور. وقد يكون وردة أو بلبلا أو غديرا أو ما شئت من هذه الكائنات اللطيفة الناعمة التى يطربنا شدوها وشذاها وانسيابها الهادئ ورقرقة النجوم على صفحاتها. ولكنه دائما أبدا، فى حقيقته وعمقه، شعر عريض الصوت منبسط قوى، لايخاطب فردا أو افرادا، ولكنه يخاطب كل من كانت العربية لسانه. وقد جلست الى 'دواوين صلاح جاهين' فتهيأ لى اننى لست بمفردى بل محاط بجمع من الناس يقرأ معى أو بالاحرى يستمع معى، أو نحن القارئين جميعا والمستمعين. فى جلسة ترطب القلب فهى صفاء وشفاء، وتجمع الشمل فهى وطن.
* * *
يعرف صلاح جاهين مكانه ودوره فى الشعر العربى المصرى، بدقة الفنان وعلم الخبير، فى مقدمة هذا الكتاب فليرجع إليها من يشاء. كذلك يحدد موقفه فى وجه العالم وفى الشعر والحياة عامة، بادراك وتواضع ينزفان دما، أجل ينزفان دما، أولا فى رباعيته الرائعة التى تقول:
أنا قلبى كان شخشيخه أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه خفتوا ليه
لا فى إيدى سيف ولا تحت منى فرس
عجبى!
ثم فى غنوة برمهات بعدأن 'يفك زراير صدره، مش بغدده' ليدق عليه بدون ضجة ويستنشق نسمة الحق ويقول:
يا ساكنين الصفيح
أنا مانيش المسيح
علشان أقول طوبى لكم غلبكم
لكنى باحلف بكم
باحلف لكم وباقول
الدنيا كدب فى كدب وانتو بصحيح.
أجل، أن الشعر قاس، الشعر شاق، الشعر صعب وطويل سلمه كما يقول الحطيئة مستظرفا وجادا، وصلاح جاهين لا يعاود صعود هذا السلم منذ سنوات. وأنا ما كتبت هذا المقال ولا بحت له بما يعرفه من حبى وتقديرى الا ليعاود صعود هذا السلم. أن مصر تريد من صلاح جاهين أن يعود الى الغناء. أن مصر لا تتوسل اليه بل تأمره. وأن صلاح جاهين عائد الى الغناء بإذن الله. فهذا الغناء أمانة لابد أن يحملها.
وهذا الغناء حياة




فؤاد حدّاد