Sunday, March 4, 2007

يا خفيف الظل يا مصر الجميلة


قال ابن سلام أو ابن قتيبة، لا اذكر أيهما، ولم تعد المراجع تحت يدى لتسعفنى على التحقيق، قال ابن سلام، فيما أرجح، أن أشعر الشعراء من يستولى عليك شعره ويستحوذ على أقطار نفسك، ما دمت فيه. هذا الكلام بمعناه لا بلفظه.
وقد ضرب عليه مثلا بالطبقة الأولى من فحول الجاهلية. قال ان الاعشى أشعر الشعراء مادمت ماضيا فى انشاد شعره، فاذا انتقلت إلى امرئ القيس كان هو الاشعر، وكذلك النابغة وزهير بن أبى سلمى. وهذه الطبقة لا تجود بها الايام فى كل جيل من الاجيال ولا فى كل عصر من العصور ولا فى كل قرن من الزمن.
وكان من ألطاف العناية أن جيلنا الذى نعيش فيه لم يخل من أمثالهم.
هذا صلاح جاهين عندما تستمع الى أغانيه وتحسن الاصغاء اليها وتنفعل وتتحد معها فتنحنى الى الارض وأنت تعرق وتغرق عندما ينشد المنشد: 'الارض قالت آه، الفاس بتجرحنى، رديت وانا محنى، آه منك أنت آه'، وتطير فى الاعالى متشياً عندما يقول: 'يا حمام البر سقف'، وتتحمس وتشجع وتستبسل وتخوض غمار المعارك وأنت تواكب الفتح الذى استحدثه فى الاغانى الوطنية منذ أن صدح بهذه الاغنية الى أن نظم نشيدنا الوطنى 'والله زمان يا سلاحى'.
هذا أشعر الشعراء عندما نقرأ له كلمة سلام ونقول معه 'بكره أجمل م النهاردا'، وعندما تطالع رباعياته واحدة بعد الاخرى وتلهث وراءه وكأنه يرأف بك ويرد اليك انفاسك عندما يختم كل رباعية بلازمة الدهشة المطمئنة والقلق المريح. عجبى. أشعر الشعراء فى 'تراب دخان' وفى 'غنوة برمهات'. وأشعرهم حين يقول 'فيك يا حديد روحانية' وأشعر الشعراء عندما يفتتح مسرح العرائس أعماله فى مصر ب 'الليلة الكبيرة' وعندما تستمع اليها فى كل عيد وفى كل موسم من الاذاعة و التليفزيون، وآه لو اسعدك الحظ فاستمعت اليها كلها بصوت ملحنها الشيخ سيد مكاوى. ولقد أسعدنى الحظ فاستمعت اليها كلها بصوت سيد مكاوى منذ سنتين فى نقابة الصحفيين والجمهور يردد وراءه ومعه كل مقطع وكل بيت. ينعم بالمشاركة فى الأصالة المصرية وفى الوجدان الشعبى الصميم. وقد احسست حينئذ بالقاعة كلها تعلو وتهبط وكأنها قلب يخفق، وخلجات النفس ترف مفتونة بروعة النغم و بطلاوة الكلمات وحلاوتها. حلاوة لا تنتهى. حلاوة تأخذ بأعقاب بعضها البعض، زاخرة بالوحى، مفعمة بالانس، وافية، مشبعة ولا يشبع منها الناس ابدا.
آه من حلاوة كلمات صلاح جاهين. ما أطيب وما أرق وما أبهى وما أبهج:
يا خفيف الظل يا مصر الجميلة.
* * *
هذا هو النقد الذى أعرف: أن أضع يدى القارئ على مواضع الجمال فى الشعر الذى أعرض له. وان ظن المواهمون أنها قصيدة من الغزل فى شعر صلاح جاهين 'فليكن' انه جدير بها واتمنى أن تكون جديرة به. وقد جمع صلاح جاهين أخيرا أشعاره التى ظهرت على الورق من قبل فى كتاب بعنوان 'دواوين صلاح جاهين' يضم ديوان 'كلمة سلام وموال عشان االقنال وعن القمر والطين والرباعيات وقصاقيص ورق' يضم الثقة والحيرة والرضا والثورة.
فلذات من الاكباد تمشى على الارض وتجرى على الورق. يعلم صاحبها كما لا يعلم احد غيره أن الشعر يستطيع التعبير عن كل الاشياء وكل الحالات: الفرح والحزن والضحك والبكاء ومتعة الحياة ورزق الاستشهاد واللحظة العابرة والخلود الباقى وذرة الرمل وقطرة الماء والكون اللانهائى. شعر لا تحده حدود ولا يجرى على وتيرة واحدة. شعر رحب مثل أحضان الأمهات ومثل العين التى تجمع فى نظرتها كل نور الدنيا. وقد يهمس هنا وهناك بهمسة رقيقة، وقد يرن رنين كأس من البللور. وقد يكون وردة أو بلبلا أو غديرا أو ما شئت من هذه الكائنات اللطيفة الناعمة التى يطربنا شدوها وشذاها وانسيابها الهادئ ورقرقة النجوم على صفحاتها. ولكنه دائما أبدا، فى حقيقته وعمقه، شعر عريض الصوت منبسط قوى، لايخاطب فردا أو افرادا، ولكنه يخاطب كل من كانت العربية لسانه. وقد جلست الى 'دواوين صلاح جاهين' فتهيأ لى اننى لست بمفردى بل محاط بجمع من الناس يقرأ معى أو بالاحرى يستمع معى، أو نحن القارئين جميعا والمستمعين. فى جلسة ترطب القلب فهى صفاء وشفاء، وتجمع الشمل فهى وطن.
* * *
يعرف صلاح جاهين مكانه ودوره فى الشعر العربى المصرى، بدقة الفنان وعلم الخبير، فى مقدمة هذا الكتاب فليرجع إليها من يشاء. كذلك يحدد موقفه فى وجه العالم وفى الشعر والحياة عامة، بادراك وتواضع ينزفان دما، أجل ينزفان دما، أولا فى رباعيته الرائعة التى تقول:
أنا قلبى كان شخشيخه أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه خفتوا ليه
لا فى إيدى سيف ولا تحت منى فرس
عجبى!
ثم فى غنوة برمهات بعدأن 'يفك زراير صدره، مش بغدده' ليدق عليه بدون ضجة ويستنشق نسمة الحق ويقول:
يا ساكنين الصفيح
أنا مانيش المسيح
علشان أقول طوبى لكم غلبكم
لكنى باحلف بكم
باحلف لكم وباقول
الدنيا كدب فى كدب وانتو بصحيح.
أجل، أن الشعر قاس، الشعر شاق، الشعر صعب وطويل سلمه كما يقول الحطيئة مستظرفا وجادا، وصلاح جاهين لا يعاود صعود هذا السلم منذ سنوات. وأنا ما كتبت هذا المقال ولا بحت له بما يعرفه من حبى وتقديرى الا ليعاود صعود هذا السلم. أن مصر تريد من صلاح جاهين أن يعود الى الغناء. أن مصر لا تتوسل اليه بل تأمره. وأن صلاح جاهين عائد الى الغناء بإذن الله. فهذا الغناء أمانة لابد أن يحملها.
وهذا الغناء حياة




فؤاد حدّاد

1 comment:

Unknown said...

موقع جديد للشاعر الجميل فؤاد حداد
به تجميع للعديد من نصوص أشعاره
كذلك يمكنك تحميل عدد من أجمل الأغاني الخاصه به

http://www.foadhaddad.somee.com/

و شكرا